رؤية الخبراء

مقدمة عن تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية المحامية الإماراتية . إيمان الرفاعي

لعل من المسلم به أن نظام التحكيم كنوع من القضاء الخاص في الفصل في المنازعات يحقق مزايا عديدة ملموسة لأطراف النزاع. من هذه المزايا احترام إرادة أطراف النزاع في اختيار الطريقة التي يرونها مناسبة في الفصل في النزاع بسرعة وبعيداً عن إجراءات التقاضي أمام المحاكم العادية، وتفادي الطعون ضد الأحكام القضائية، كما أن التحكيم يخفف العبء عن كاهل القضاء العادي. ويمكن للأطراف الذين يفضلون سلوك التحكيم في حل نزاعاتهم النص عليه في العقد "شرط التحكيم" أو الاتفاق عليه لاحقا في وثيقة منفصلة.

وإذا كان التحكيم في عالم اليوم قد أصبح الطريق العادي لحسم منازعات التجارة الدولية، فإن ضمان تنفيذ أحكام المحكمين بسرعة ويسر يمثل في حقيقته ضمانا لجدوى التحكيم ذاته ومؤثّرًا في تشجيع التجارة الدولية؛ ذلك أن الأحكام التي يصدرها قضاء الدولة واجبة النفاذ جبراً بقوة القانون. إلا أن أحكام المحكمين لا تحظى بذاتها بمثل هذه القوة؛ فهي صادرة عن أشخاص عاديين لا يمثلون دولة ما أو إحدى سلطاتها العامة، ولا يتمتعون بولاية قضائية وليس لهم سلطة للأمر بتنفيذ ما يصدرونه من أحكام. ومن هنا كان تدخل قضاء الدولة للأمر بتنفيذ هذه الأحكام ضرورة لا غنى عنها لإسباغ الصفة التنفيذية عليها.

 

ويعد الاهتمام بتنفيذ حكم المحكم من أولى الموضوعات التي تستحق الدراسة والتحليل، وإن نجاح نظام التحكيم والتسليم بأفضليته لحل المنازعات ذات الطابع الدولي أو على المستوى الوطني هو تنفيذ أحكام التحكيم، خاصة خارج الدولة التي صدرت فيها هذه الأحكام().

فليس هناك أهم من إمكانية تنفيذ حكم التحكيم، خاصة في التحكيم التجاري الدولي؛ لأن المكان الذي صدر فيه الحكم قد يتم اختياره بسبب ملاءمته للأطراف دون أن يكون للطرف الذي صدر ضده الحكم أموال أو ممتلكات في الدولة التي تم اختيارها كمكان للتحكيم وصدر فيها الحكم. ولهذا فإن الطرف الذي صدر الحكم لصالحه يبحث عن الدولة التي يكون لخصمه فيها أموال وممتلكات يمكن التنفيذ عليها..ولا تقل عن هذا أهمية تنفيذ حكم التحكيم الوطني؛ ذلك أن تنفيذ حكم التحكيم يعد بمنزلة لحظة الحقيقة بالنسبة لنظام التحكيم كله، إذ يعد هذا هو الوقت الحرج أو وقت الوفاء بالدين، فنجاح التحكيم يقاس بمدى تنفيذ أحكامه. ولكن ما هو الفرض عندما يرفض الطرف المحكوم عليه تنفيذ حكم التحكيم اختياريًّا؟ هنا تظهر أهمية تنفيذ هذا الحكم تنفيذاً جبريًّا، وذلك بالحصول على أمر بتنفيذه؛ حيث اهتمت التشريعات الحديثة -سواء الوطنية أو الدولية- بتنظيم مسألة تنفيذ أحكام التحكيم() .

ويقصد بالتنفيذ في اللغة تحقيق الشيء وإخراجه من حيز الفكر والتصور إلى مجال الواقع الملموس، فيقال: نفذ المأمور الأمر أي أجراه وقضاه. 

ويقصد باصطلاح التنفيذ عند فقهاء القانون اقتضاء حق لشخص في ذمة شخص آخر(). 

ولا مشكلة إذا قام المدين بتنفيذ ما التزم به طواعية وباختياره. غير أن المشكلة تثار في حالة رفض المدين الوفاء بالالتزام. هنا لا يجد الدائن (المدعي) بدًّا من اللجوء إلى القضاء بغية الحصول على الحماية القضائية من خلال الحكم على المدين (المدعى عليه) بإلزامه بأداء ما التزم به.

غير أن الحماية القضائية المقررة للأحكام القضائية بصفة عامة، وأحكام التحكيم بصفة خاصة، تظل عديمة الجدوى ما لم يوضع الحكم موضع التنفيذ. ولا صعوبة في ذلك إذا كان الحكم القضائي أو حكم التحكيم صادرًا من المحاكم الوطنية أو داخل الدولة ويراد تنفيذه داخل الدولة. أما إذا كان الحكم القضائي أو حكم التحكيم صادرًا من محاكم دولة ويراد تنفيذه داخل دولة أخرى، فهذا يعني أن هناك انفصالا بين سلطة القضاء وسلطة التنفيذ؛ فالحكم يصدر باسم سيادة دولة أجنبية، وسلطة التنفيذ تعمل باسم سيادة دولة أخرى، هنا تثار مشكلة مدى الاعتراف بالقوة التنفيذية للحكم الأجنبي داخل الدولة التي يراد تنفيذه لديها().

       وإذا كانت مشكلة تنفيذ أحكام التحكيم قد تبدو محدودة الأبعاد إذا ما ظلت في إطار النظام القانوني الداخلي للدولة، فإن جوانبها تتعاظم وتتنامى بالنسبة لتنفيذ أحكام التحكيم الصادرة خارج الدولة التي يراد التنفيذ على أرضها، أو تلك التي تتعلق بالتجارة الدولية، خاصة في ظل غياب قواعد تنفيذية موحدة بين الدول المختلفة تعالج تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية().

ولذلك فقد حاولت العديد من الدول، سواء بشكل جماعي أو ثنائي، وغير ذلك، تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ أحكام التحكيم الصادرة في المجال الخاص بإبرام اتفاقيات فيما بينها، فتعمل على تيسير تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية أو المتعلقة بالتجارة الدولية. 

ورغم الآثار الطيبة التي تحققت من جراء إبرام هذه الاتفاقيات، إلا أنها لم تقضِ على كافة الصعوبات التي تحول دون تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية أيًّا كانت الأسباب.

ونظراً إلى أن تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية وفقاً للقانون الاتفاقي يفوق من حيث المزايا الكثيرة نظيره الذي يتم وفقاً للنظام القانوني للدولة التي سيجري التنفيذ على إقليمها، فقد حرصت غالبية الدول على تشجيعه؛ وذلك بإبرامها للعديد من الاتفاقيات الدولية الثنائية والجماعية، والتي بمقتضاها يلتزم القضاء الوطني في كل دولة متعاقدة بالاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها.

وتأتي اتفاقية نيويورك عام 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية بصفة عامة على رأس هذه الاتفاقيات لما حوته بين طياتها من تيسيرات ومرونة وملاءمة لم تتضمنها أية اتفاقية أخرى().

 

تلعب المحكمة أيضاً دوراً هاماً في تطبيق قرارات التحكيم. في هذا الصدد، يذكر لورد كولينز، وهو قاضٍ بريطاني، أن "المحكمة التي يُطلب منها الاعتراف أو التطبيق لها سلطة تقديرية للاعتراف أو التنفيذ حتى إذا أثبت الطرف الذي يعترض على الاعتراف أو التطبيق أنه لم يكن هناك اتفاق تحكيم صحيح."

 

يكمن الهدف الرئيس لاتفاقية نيويورك في الإسراع في تنفيذ قرارات التحكيم الأجنبية من خلال إخضاع التطبيق لعدد محدود من الشروط. بموجب المادة الخامسة من اتفاقية نيويورك، فإن أساس رفض إنفاذ قرار التحكيم يقتصر على قائمة صغيرة من العيوب التي تؤثر على إجراءات التحكيم أو قرار التحكيم. تشير المادة 5 (1) من اتفاقية نيويورك إلى الأسس التي يجب على الطرف مراعاتها من أجل الاعتراض على إنفاذ قرار التحكيم بنجاح. تنص المادة المذكورة على أنه يجوز رفض إنفاذ القرار في الحالات التالية:

  • في حالة انعدام أهلية أحد أطراف التحكيم.
  • إذا كان اتفاق التحكيم غير صحيح.
  • في حال وقوع ظلم إجرائي في سياق الإجراءات التي تجريها هيئة التحكيم.
  • إذا كان حكم التحكيم يتناول قضايا لا تقع ضمن نطاق التحكيم.
  • إذا لم يكن تشكيل هيئة التحكيم أو إذا لم يكن إجراء التحكيم متوافقا مع ما اتفق عليه الطرفان أو مع قانون مقر التحكيم في حال غياب اتفاق بخصوص ذلك.
  • إذا لم يكن حكم التحكيم قد أصبح ملزما بعد للأطراف أو إذا تم إلغاء الحكم في البلد الذي صدر فيه.

 

    وبخصوص هذه الاتفاقية نقول: إن اتفاقية جنيف لسنة 1927 كانت من الاتفاقيات التي ينسب إليها فضل السبق في محاولة إيجاد الحلول المناسبة لمشكلة تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، إلا أنها لم تحقق بعد الأهداف المبتغاة من تنظيمها. ومن جهة أخرى فإن مجال تطبيقها قد يحد من فاعليتها؛ وذلك لاقتصارها على أحكام التحكيم التي تكون نتاجًا لشرط تحكيمي أو مشارطة تتوافر فيها الضوابط الخاصة ببروتوكول جنيف 1923، وأن تكون صادرة من إحدى الدول المتعاقدة ومن أشخاص خاضعين لقضائها.

   في عام 1953، أصدرت غرفة التجارة الدولية المشروع الأول لاتفاقية الاعتراف بقرارات التحكيم الدولية وإنفاذها إلى مجلس الأمم المتحدة الاقتصادي والاجتماعي. ومع تعديلات طفيفة، قدم المجلس الاتفاقية إلى المؤتمر الدولي في ربيع عام 1958. ولما فرغت اللجنة من إعداد المشروع تولى المجلسان الدعوة إلى مؤتمر دبلوماسي لدراسته وإقراره، وفي تاريخ 10 يونيو 1958 أقر المؤتمر المشروع بعد أن أدخل عليه تعديلات كبيرة، ما جعله وسطاً بين الاتفاقية القديمة وبين مشروع الغرفة التجارية. وصارت هذه الاتفاقية نافذة منذ السابع من يونيو 1959، وانضمت إليها العديد من الدول. وتسري الاتفاقية على حكم التحكيم الأجنبي سواء كان تحكيما حرا أم تحكيما مؤسسيا، وسواء كان أطرافه أفرادا أم أشخاصا اعتبارية، ولو كانوا من أشخاص القانون العام. ويستوي أن يكون النزاع مدنيا أو تجاريا وأيا كانت طبيعة العلاقة القانونية مصدر النزاع؛ تعاقدية أم غير تعاقدية.كما يستوي أن يكون تحكيما عاديا أو تحكيما بالصلح. ويستوي أن يكون طرفا التحكيم من رعايا دولتين مختلفتين أو من دولة واحدة.كما يستوي أن يكون الطرفان من جنسية إحدى الدولتين الصادر فيها الحكم والمطلوب تنفيذه فيها، أو من جنسية دولة مختلفة. على أنه يلزم لتطبيق الاتفاقية أن يكون التحكيم قد صدر بناء على اتفاق تحكيم مكتوب (مادة 2|2 من الاتفاقية).

مواضيع مرتبطة