رؤية الخبراء

تحديات تمويل الإنفاق العام في الجزائر في ظل تراجع أسعار المحروقات أستاذ القانون العام بجامعة المسيلة الجمهورية الجزائرية . د.خضري حمزة

تشكل الجباية البترولية  65% من تمويل الإنفاق العام في الجزائر، و عرفت نسبة مساهمة عائدات النفط في تمويل الميزانية تزايدا خلال السنوات الماضية بسبب  الاعتماد على توسيع الإنفاق العام  لدعم برامج  النمو الاقتصادي، فقد وضعت الحكومات المتعاقبة خلال الفترة الممتدة من سنة 2000 إلى سنة 2015 العديد من  البرامج التنموية تحت مسميات مختلفة  تعتمد أساسا في تنفيذها على زيادة الإنفاق العام و ترقية القدرة الشرائية للفرد، و قد سبب تراجع أسعار النفط في الأسواق الدولية  منذ 2014 إلى يومنا هذا عجزا متزايدا  في ميزانية الدولة، و هو ما جعل البلاد تواجه تحديات كبرى لتعزيز مصادر تمويل الميزانية خارج المحروقات، و هو التحدي الذي تم  تحقيقه من خلال تنويع مصادر الإنفاق العام عبر اليات اقتصادية و مالية  متعددة   .

ترشيد الإنفاق العام و مكافحة التبذير

اعتمدت الحكومة الجزائرية بموجب  القوانين و التنظيمات و  التعليمات الصادرة عن السيد رئيس الجمهورية و السادة أعضاء الحكومة سياسة ترشيد الإنفاق العام مع المحافظة على الفعالية و النجاعة في تلبية الطلبات العمومية للمواطنين في مختلف القطاعات الوزارية. و  من الآليات القانونية التي تم الاعتماد عليها في مجال ترشيد الإنفاق العام  إلزام كل المصالح الإدارية المركزية و المحلية بتحديد الحاجيات العمومية بدقة قبل الشروع في إبرام و تنفيذ الصفقات العمومية، و هذا ما حقق التقليل من ظاهرة التبذير عند اقتناء المنقولات أو تقديم الخدمات أو انجاز الأشغال لفائدة المرافق العامة في الدولة . و في السياق نفسه ألزمت القوانين و التنظيمات في الدولة  المصالح الإدارية المركزية و المحلية بالتنسيق مع بعضها البعض عند التكفل بالطلبات العمومية عن طريق اعتماد آلية مركزية الشراء خاصة على مستوى المؤسسات العمومية الإقتصادية الصناعية و  التجارية .

 و على مستوى الجماعات المحلية (( البلديات و الولايات ))ألزم تشريع البلدية المجالس المنتخبة بالتكفل الحصري بالطلبات العمومية التي تكتسي طابع الأولوية فقط حتى يتم تقليص أكبر قدر ممكن في ميزانية الإنفاق العمومي، و في هذا الصدد نصت المادة 11 من القانون رقم 10-11 المؤرخ في 22 يونيو سنة 2010 المتضمن قانون البلدية على أن المجالس المنتخبة ملزمة باتخاذ كافة التدابير الضرورية لاستشارة المواطنين حول الطلبات التي تكتسي طابع الأولوية حتى يتم التكفل بها سنويا عن طريق ميزانية الجماعات المحلية ، و في السياق نفسه جعل قانون الولاية المجلس الشعبي الولائي المنتخب الإطار الذي يستشار فيه ممثلو الشعب حول أولويات التنمية المحلية .     

تبني خطة التمويل غير التقليدي للميزانية

 إن عملية إصدار النقود من البنك المركزي مرتبطة بعدة قيود مالية منصوص عليها في مختلف القوانين التي تنظم الصرف و النقد في العالم تتمثل في ثلاث ضوابط لا يمكن دونها للبنك المركزي أن يصدر العملة الوطنية، و هي وجود مقابل مالي من الذهب لعملية الإصدار النقدي، أو وجود مقابل من العملة الأجنبية، أو وجود ائتمان مقابل صادر عن الخزينة العمومية، غير أن التمويل غير التقليدي للخزينة العمومية هو السماح للبنك المركزي بإصدار العملة دون وجود أي مقابل لها من الذهب أو العملة الأجنبية أو الائتمان، و هذا ما قامت به الجزائر عندما  عدلت قانون النقد و القرض سنة 2019 و سمحت للبنك المركزي بالقيام بإصدارات نقدية خارج الأطر التقليدية بشرط واحد هو قيام بنك الجزائر بشراء السندات الصادرة عنه و ذلك لمدة محدودة قدرها  خمس سنوات.

 و قد خصصت الجزائر العملة الصادرة في إطار التمويل غير التقليدي للتكفل بتمويل الميزانية، و تسديد الدين الداخلي، و تمويل الصندوق الوطني للاستثمار و ذلك بنص قانون النقد و القرض المعدل سنة2019  .   

إن  التمويل التقليدي  شكل مصدرا مهما من مصادر الإنفاق العام خلال السنتين الماليتين الماضيتين (( 2019/2020 )) غير أن جملة من الانتقادات وجهت لأسلوب التمويل غير التقليدي خاصة ما تعلق بتراجع قيمة الدينار الجزائري  بالنسبة للعملات الأجنبية الناجم عن ارتفاع معدلات التضخم   ما أدى حتما إلى ارتفاع الأسعار و تراجع المستوى المعيشي للفرد، لذلك عبرت مؤسسات الدولة عن  إرادتها  القوية لتوقيف العمل بالتمويل غير التقليدي و البحث عن مصادر أخرى أكثر فعالية و أقل خسائر على الفرد و على الإقتصاد الوطني.

الاستدانة الداخلية

مازالت الجزائر ترفض رفضا مطلقا اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، و هذا راجع للتجربة المريرة لها مع المؤسسات المالية الكبرى في العالم خاصة صندوق النقد الدولي و البنك العالمي، خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي، أين اضطرت  إلى إعادة جدولة الديون أكثر من مرة تحت شروط تعسفية  سيما ما تعلق بشروط تسريح العمال و حل المؤسسات الاقتصادية العمومية، و هي الشروط  التي كانت لها نتائج كارثية على الاقتصاد الوطني.

اختارت البلاد نهج الاستدانة الداخلية  عن طريق إحداث القروض العامة أو القروض السندية، حيث أصدر بنك الجزائر سندات مالية و طرحها للاكتتاب على الجمهور عموما و على المؤسسات الاقتصادية الخاصة و العمومية على وجه الخصوص، و استطاع بنك الجزائر أن يحقق عائدات مالية عن طريق بيع هذه السندات، غير أن الحاصل العام لعملية الاكتتاب لم يكن مرضيا، و لم يحقق النتائج المسطرة له، إذ أن القرض السندي لسنة 2017 حقق 568 مليار دينار فقط و هو مبلغ زهيد بالنظر إلى الأهداف التي سطرتها الحكومة آنذاك . و  يعود عدم إقبال الجزائريين على القروض السندية إلى أسباب  عديدة اجتماعية و اقتصادية و مالية  

إصلاح الجباية و ترقية مصدريتها للإنفاق العام

بغية توسيع نسبة مساهمة الجباية في تمويل ميزانية الإنفاق العام تعمل الجزائر في السنوات الأخيرة على الرفع من مردودية  الجباية العادية و جعلها كفيلة بتغطية الإنفاق العمومي، و السعي نحو إحلالها محل الجباية البترولية التي  لازالت تسيطر بشكل كبير على ميزانية الدولة، و من أجل تحقيق ذلك  جاء  قانون المالية التكميلي لسنة 2020 بجملة من التدابير الضريبية، منها زيادة تسعيرة الرسم على المنتجات البترولية     بــ 03 دينار جزائري، و رفع قيمة الرسم المطبق على السيارات السياحية، و استبدال الضريبة على الأملاك بالضريبة على الثروة مع توسيع نطاق الخاضعين لها،  و الرفع من قيمتها وفق سلم تصاعدي باعتماد المعدل النسبي 0.1 % على كل الأملاك التي تفوق قيمتها 100 مليون دينار جزائري .

و لتحقيق الإصلاح الجبائي المنشود تعمل الحكومة على رقمنة النظام الضريبي لأجل إضفاء الشفافية على عملية تحصيل الضرائب، و تعزيز اليات مكافحة الغش والتهرب الضريبي و ضمان المساواة في تطبيق مبدأ الإلزام في دفع الضرائب على الجميع، كما تم الشروع في مراجعة النظام الضريبي بتخفيض قيمتها و توسيع دائرة دافعيها  .  

التوجه نحو الاقتصاد المنتج للثروة

بدأت الجزائر تنفيذ خطة اقتصادية لتكوين اقتصاد منتج للثروة و هذا عبر محاور عديدة:  المحور الأول يتمثل في الاستثمار الفلاحي و استغلال الإمكانيات الكبرى لاسيما الأراضي الفلاحية الشاسعة و اليد العاملة الفنية و المتخصصة التي تحضى بتكوين عال في  الجامعات الجزائرية و المدارس العليا الفلاحية المتخصصة،  زيادة على  الثروة المائية المعتبرة في الجنوب الجزائري، و قد بدأت نتائج الاستثمار الفلاحي تحقق أكلها على مستوى الاكتفاء الذاتي و توفير مناصب العمل و تحقيق عائدات من العملة الصعبة نتيجة  عمليات التصدير إلى أوروبا و بعض دول الجوار.

 و من  القطاعات المهمة التي تولي لها الحكومة الجزائرية الاهتمام الكبير لجلب الثروة قطاع المؤسسات الصغيرة و المتوسطة و المؤسسات الناشئة، فقد تم إحداث ثلاث صناديق عمومية لتمويل مشاريع المؤسسات الصغيرة و المتوسطة بهامش فائدة لا يتجاوز 01% كما خصصت قوانين المالية المتعاقبة حوافز جبائية و شبه جبائية معتبرة للراغبين في إحداث هذا النوع من المؤسسات .

لا شك أن الجزائر ستتحول إلى دولة فلاحية و صناعية رائدة خلال السنوات العشر القادمة، و ذلك راجع للاستراتجيات المتعددة و المتنوعة المعتمدة من مؤسسات الدولة للوصول إلى تمويل للإنفاق العام خارج  عائدات بيع المحروقات و ذلك عبر إحداث اقتصاد  متنوع و منتج . 

 

 

 

 

مواضيع مرتبطة