رؤية الخبراء

السرية المصرفية استرداد الموجودات والعائدات المتحصلة من جرائم الفساد عميد كلية القانون - دولة الكويت . الدكتور فيصل الكندري

أولا: تقييد السرية المصرفية والمهنية:

تقيد المشرع بالسرية المصرفية ولم يرفعها عن المؤسسات المالية لتسهيل إجراءات التبليغ عن جرائم الفساد، بل نص في المادة 24 من القانون الخاص بإنشاء الهيئة العامة لمكافحة الفساد بأنه (مع عدم الإخلال بأحكام القانون رقم 32 لسنة 1968 في شأن النقد وبنك الكويت المركزي وتنظيم المهن المصرفية والقوانين المعدلة له، تقوم الهيئة فور علمها بوجود شبهة جريمة فساد بجمع المعلومات والأدلة بشأنها، ولها في سبيل ذلك الاطلاع على السجلات والمستندات والوثائق المتعلقة بالجريمة محل العلم، وكذلك طلب موافاتها بأية بيانات أو معلومات أو وثائق متعلقة بها، ولها أن تقرر إحالتها إلى الجهات المختصة).

وكذلك لم يرفع الالتزام عن أصحاب المهن القانونية، والمحاسبين المستقلين، بالإبلاغ عن جريمة فساد إذا كان قد تم الحصول على المعلومات المتعلقة بتلك المعاملات في الظروف التي يخضعون فيها للسرية المهنية.

  وهذا على خلاف ما ورد في المادة 12 من القانون رقم 106 لسنة 2013 في شأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي ألزمت المؤسسات المالية، والأعمال والمهن غير المالية المحددة، بإخطار وحدة التحريات دون تأخير بأي معاملة، أو أي محاولة لإجراء المعاملة بصرف النظر عن قيمتها، إذا اشتبهت أو توافرت دلائل كافية للاشتباه في أن تلك المعاملات تجرى بأموال متحصلة من جريمة، أو أموال مرتبطة، أو لها علاقة بها، أو يمكن استعمالها للقيام بعمليات غسل أموال أو تمويل الإرهاب.

   ونصت المادة 12 أيضا بإلزام أصحاب المهن القانونية والمحاسبين المستقلين بالإخطار عن معاملة إذا كان قد تم الحصول على المعلومات المتعلقة بتلك المعاملات في الظروف التي يخضعون فيها للسرية المهنية.

ومما تجدر الإشارة إليه، أن الإبلاغ عن الجرائم بشكل عام وعن جرائم الفساد بشكل خاص، لا يعد من قبيل الوشاية، ويخرج عن نطاق الأسرار الوظيفية التي يتعين كتمانها وعدم إفشائها، بل إن السر الوظيفي يتعين إفشاؤه إذا كان القصد منه الحيلولة دون وقوع جريمة، أو كان القانون يوجب القيام به، كما هو الحال في نص المادة 18 من قانون حماية الأموال العامة التي تنص على أنه (كل من علم بوجود مشروع لارتكاب جريمة مما نص عليه في هذا القانون، أو علم بوقوعها بالفعل، وامتنع عن إبلاغ ذلك إلى النيابة أو ديوان المحاسبة، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على عشرة آلاف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين).

استرداد الموجودات بموجب القوانين الكويتية:

تنص القوانين المقارنة على قواعد عامة لاسترداد الموجودات، دون تنظيم قانوني مفصل لها، لكن بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي اعتمدتها الجمعية العمومية في قرارها رقم 58/4 المؤرخ 31 أكتوبر 2003، وصادق مجلس الأمة على الانضمام إلى تلك الاتفاقية بموجب القانون رقم 47 لسنة 2006، وانسجاماً مع المادة 6 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، صدر القانون رقم 2 لسنة 2016 بإنشاء هيئة تتولى مكافحة الفساد، لذا فإن نصوص الاتفاقية الدولية بتنظيم استرداد الموجودات أصبحت جزءا من التشريع الوطني.

التوجه العام للمشرع الكويتي في موضوع استرداد الموجودات هو العمومية والتحفظ، وذلك بالإحالة إلى الاتفاقيات الدولية الثنائية، أو متعددة الأطراف التي صادقت عليه دولة الكويت أو وفقا لمبدأ المعاملة. والتوجه الأمثل هو إبراز أحكام التعاون الدولي في التشريعي الداخلي كما فعل المشرع البحريني بإصداره قانون حظر ومكافحة غسل الأموال رقم ٤ لسنة ٢٠٠١، وهو توجه مماثل لتشريعات دول الاتحاد الأوربي وبشكل خاص فرنسا، وأيضاً التشريعات الأمريكية.

بموجب نص المادة 5 بند 6 من قانون إنشاء الهيئة العامة لمكافحة الفساد، فإن الهيئة تقوم بمتابعة إجراءات ضبط وحجز واسترداد الأموال والعائدات المتحصلة من جرائم الفساد. فكان أجدى بالمشرع أن يبين ما هي القواعد والإجراءات المنصوص عليها باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، نظرا لأن القانون صدر أصلا لمكافحة الفساد ولحرمان المحكوم عليه بأحد جرائم الفساد من الأموال والفوائد والعوائد التي دخلت بذمته بطريقة غير مشروعة.  

والمادة 25 من قانون حماية الأموال العامة جاءت بحكم عام تبين فيه أن لسلطات التحقيق في سبيل التحفظ على أموال المشتبه بهم أو المتهمين أن تتخذ كل ما تراه من إجراءات في سبيل تتبعها في الخارج، وكل ما تراه موصلا للتحفظ على تلك الأموال في أية حالة تكون عليها بما في ذلك الطرق الدبلوماسية والاستعانة بجهات البحث والتحري الأجنبية العامة أو الخاصة.

وللأسف جاء أيضاً قانون مكافحة غسل الأموال بأحكام عامة، ودون تنظيم لاسترداد الأموال التي خرجت بطرق غير مشروعة وكيفية استعادتها؛ فالمادة 23 من القانون تنص على أنه تتبادل النيابة العامة طلبات التعاون الدولي مع الجهات الأجنبية المختصة في الأمور الجزائية في مجال جرائم غسل الأموال أو الجرائم الأصلية أو جرائم تمويل الإرهاب، وذلك بالنسبة إلى المساعدات والإنابات القضائية وتسليم المتهمين والمحكوم عليهم، والطلبات المتعلقة بتحديد الأموال أو تتبعها أو تجميدها أو الحجز عليها أو مصادرتها، وذلك كله وفق القواعد التي تقررها الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف التي صادقت عليها دولة الكويت أو وفقا لمبدأ المعاملة بالمثل.

استرداد الموجودات بموجب الاتفاقيات الدولية:

تفعيلا لمواد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد الصادرة عام 2003 والتي دخلت حيز التنفيذ في عام ٢٠٠٥، والتي صادق عليها مجلس الأمة في 2006 فإن على الأجهزة المعنية أن تعمل على تنفيذ الأحكام الخاصة باسترداد الموجودات في تلك الاتفاقية. حيث تضمنت الاتفاقية الدولية فصلين مهمين هما الرابع والخامس، يعالج الأول قضايا التعاون الدولي، والثاني استرداد الموجودات.

اشتمل فصل التعاون الدولي على ثماني مواد من ( 43 – 50). تحددت فيها بالتفصيل إجراءات وشروط التعاون بين الدول الأطراف، وتسليم المجرمين ونقل الأشخاص المحكوم عليهم، والمساعدة القانونية المتبادلة، ونقل الإجراءات الجنائية، والتعاون في مجال إنفاذ القانون، والتحقيقات المشتركة، وأساليب التحري الخاص.

أما فصل استرداد الموجودات فقد اشتمل على تسع مواد من (51 – 59)، أوضحت بالتفصيل ضوابط والتزامات الدول الأطراف في مجالات: منع وكشف إحالة العائدات المتأتية من الجريمة، وتدابير الاسترداد المباشر للممتلكات، وآليات استرداد الممتلكات من خلال التعاون الدولي في مجال المصادرة، والتعاون الدولي لأغراض المصادرة، والتعاون الخاص، وإرجاع الموجودات والتصرف فيها، وإنشاء وحدة معلومات استخبارية مالية، وإمكانية إبرام اتفاقات وترتيبات ثنائية ومتعددة الأطراف.

ومن الواضح أن مواد هذين الفصلين، تضمنت نصوصاً كثيرة تيسر خطوات وشروط التجريم، وتعجل بإجراءات تسليم المجرمين، كما أنها تيسر، بشكل غير مسبوق، عمليات التحري والملاحقة للمتهمين بجرائم فساد، إضافة إلى تأكيدها وتحديدها لأشكال المساعدة القانونية المتبادلة بين الدول الأطراف.

وفي مجال التصرف والانتفاع بالأموال التي قد تكون متأتية عن جرائم فساد، احتوت المواد نصوصاً بإجراءات أكثر تشدداً لضمان كشف هذا النوع من الأموال ومكافحة غسيلها. أما المواد الخاصة بتدابير وآليات استرداد الممتلكات فتضمنت نصوصاً صريحة بإلزام الدول بتسهيل وتعجيل إجراءات إنفاذ القانون، بما فيها إجراءات المحاكم، إضافة إلى توسيعها وتحديدها لأنماط التعاون بين الدول في مجال المصادرة وإعادة الموجودات إلى مالكيها الشرعيين.

فالمادة (51) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تنص على أن (استرداد الموجودات "الممتلكات" هو مبدأ أساسي في هذه الاتفاقية، وعلى الدول الأطراف أن تمد بعضها البعض بأكبر قدر من العون والمساعدة في هذا المجال). وبالتالي وفقا لأحكام الاتفاقية فالدول أطراف هذه المعاهدة ملتزمة بأن تمد بعضها البعض بالمساعدة من أجل استرداد الممتلكات، وإلا ترتب على الدولة الممتنعة المسئولية الدولية. فوفقا لنص المـادة 66 من اتفاقية الأمم المتحدة المشار إليها يحق للدولة طالبة التحفظ على أموال شخص -محل المحاكمة الجنائية عن جرائم فساد- مودعة لدى دولة أخرى في حالة رفض هذه الأخيرة اتخاذ تدابير التحفظ على تلك الأموال تمهيدا لمصادرتها لصالح الدولة طالبة التحفظ أن تلجأ أولا إلى التفاوض معها، فإذا لم يثمر التفاوض عن شيء أو تعذر إتمام التفاوض جاز اللجوء إلى التحكيم الدولي على أن ينتهي خلال ستة أشهر، فإذا تعذر ذلك أيضا جاز اللجوء إلى محكمة العدل الدولية بإحالة النزاع إليها بطلب يقدم وفقا للنظام الأساسي للمحكمة.

وتمر الآلية القانونية لاسترداد الأموال بموجب الاتفاقية الدولية بثلاث مراحل هي:ـ   

المرحلة الأولى: مرحلة طلب تجميد الأموال المشتبه فيها: والتجميد كما عرفتها الاتفاقية في المادة الثانية منها فقرة (و) بأنه (فرض حظر مؤقت على إحالة الممتلكات أو تبديلها أو التصرف فيها أو تولي عهدة الممتلكات أو السيطرة عليها مؤقتاً بناء على أمر صادر من محكمة أو سلطة مختصة أخرى). ويعتبر التجميد إجراء تحفظي خشية التصرف في الأموال من جانب المشتبه فيه أو تحويلها أو نقلها. 

المرحلة الثانية: طلب مصادرة الأموال: ثم تأتي بعد مرحلة تجميد الأموال مرحلة مصادرته. والمصادرة كما نصت عليها المادة الثانية في الفقرة (ز) من الاتفاقية تعني التجريد أي الحرمان الدائم من الأموال بأمر صادر عن محكمة أو سلطة مختصة. ولأهمية هذا الإجراء -المصادرة- نصت الاتفاقية في المادة (55) منها على التعاون الدولي لأغراض المصادرة، فعلى الدول الأطراف التي تتلقى طلبا من دولة أخرى طرف في الاتفاقية لها ولاية على الجرائم المصادرة للأموال الموجودة فيها المنهوبة، إما أن تحيل الطلب إلى سلطاتها المختصة من أجل استصدار أمر المصادرة، أو تحيل إلى سلطاتها المختصة أمر المصادرة الصادر من الدولة الطالبة الطرف في الاتفاقية. 

المرحلة الثالثة: وهي طلب استرجاع الأموال: وهي عند صدور حكم نهائي بالإدانة على المتهم، الذي تم مصادرة أمواله الموجودة في الخارج نتيجة التعاون الدولي للدول أطراف الاتفاقية، يتم طلب استرجاع هذه الأموال من الدولة الطرف الموجودة على أرضها هذه الأموال المنهوبة، لصدور الحكم الجنائي النهائي الذي يدين المتهم ويثبت أن الأموال هي نتيجة ارتكاب جريمة فساد.

 

مواضيع مرتبطة