مقالات

إضاءات في الحوكمة... الأزمات الاقتصادية ونشاة الحوكمة الخبير المصرفي . أحمد يوسف البدر

بين الفينة والأخرى تتوارى إلى أنظارنا مشاهد مهولة لأزمات إقتصادية ومالية تطفو على الساحة الدولية مخيمة بأثارها المدمرة على مختلف بلدان العالم المتقدمة والنامية، لتخلف ورائها العديد من الاثار السلبية والأضرار الجسيمة على عدة مستويات، أولا مستوى الشركات والمنشآت المالية بتعرضها لحالات الإفلاس وما يتولد عن ذلك من عمليات الإندماج والإستحواذ، وثانياً على مستوى الأسواق المالية والبورصات التي غالباً ما تتكبد خسائر فادحة نتيجة عزوف تعامل المستثمرين بسبب إنخفاض أسعار الأسهم والسندات والصكوك وغيرها من أدوات المشتقات المالية والإستثمارية المختلفة، وثالثاً على مستوى العملات التي غالباً ما تتعرض لتغيرات في قيمتها لعلاقتها الطردية في مختلف القطاعات المالية والاقتصادية وتعاملات الشركات المختلفة فيها، ورابعاً على مستوى الدولة كالانكماش والتضخم وعجز الموازنة العامة.

مفهوم الأزمة الاقتصادية وأنوعها

وبناء على ما سبق ذكره فإنه يتوجب في البداية أن نوضح ماهية مفهوم كل من الأزمة الإقتصادية والأزمة المالية والفروقات الأساسية فيما بينمها، ونظراً لتعدد المفاهيم والتعاريف بشأن بيان مفهوم ومهاية تلك الأزمات فسوف نكتفي  بتناول المفاهيم البسيطة لكل منهما، وعليه فإن الأزمة الإقتصادية  تعرف بأنها " بمثابة إختلالات فجائية في توازن البيئة الاقتصادية بدولة ما أو إقليم ما"، وتتخذ هذه الازمة ثلاثة أشكال رئيسية ويطلق على الشكل أول منها باسم الأزمة الدورية وهي تتصف بــ " ذات طبيعة تكرارية وعمومية " فهي تكرارية لأنها تؤثر في الانتاج والتداول والاستهلاك والتراكم وعمومية كونها تنتشر مختلف القطاعات  في حدود دولة وما وقد يسوتسع انتشارها إلى مستوى أكبر من ذلك كالأقليم المحيط بها، بينما يطلق على الشكل الثاني من هذه المات بالأزمة الوسيطة وهي تتصف بــ " المحدودية " حيث أنها تنجم ان اختلالات جزئية في العملية التكرارية وتؤثر في بعض القطاعات وغالباً تظل ضمن نطاق الدولة المتأزمة أي أنها لا تتمتع بقدر الانتشار والتوسع التي تتحلها بها الأزمة الدورية، ويلقب الشكل الثالث من الازمات الاقتصادية بالأزمة البنيوية وهي تتصف بــ " التبادلية " حيث تظهر هذه الازمة نتيجة التذبذبات بين العناصر المتبادلة لرأس المال والتي من أهمها الانتاج والاستهلاك وغالباً ما تظهر هذه الازمة في كبرى القطاعات على سبيل المثال لا الحصر كقطاع الغذاء والطاقة وغيرها وعلى الرغم من تميز هذه الأزمة بالاستدامة والاستمراريتها لفترات طويلة  إلا أنها لا تعتبر من الازمات ذات الطابع التوسعي والانتشاري كما هو الحال بالأزمة الدورية.

 مفهوم الأزمة المالية وأنواعها

بينما تعرف الأزمة المالية بانها " هبوط فجائي وحاد لقيمة الأصول المالية والعينية المؤثرة التي تمتلكها المنشآت المالية "، وتعرف أيضا بأنها " أختلالات تتعرض لها البيئة الاقتصادية بشكل فجائي وحاد ينتج عنها توقف الأنشطة والوظائف الرئيسية للمنشآت المالية تؤدي إلى إنهيار بعضها، وتؤثر سلباً على أنشطة القطاعات الأخرى "، تتمثل هذه الأزمة بأربع صور رئيسية كما يلي:

  1. أزمة المصارف: وتنشأ هذه الأزمة جراء عمليات سحب الودائع المتوفرة لدى البنوك من قبل المودعين بشكل مفاجئ ومتتالي يؤدي إلى تعثر المصرف في قدرته على الوفاء والاستجابة لتنفيذ تلك العمليات بسبب العمليات الاستثمارية التي يقوم بها واحتفاظه بنسبة منها لديه، وهي خاصة بالمصارف بصفتها حاضنة للودائع النقدية لاغراضها المتخلفة.

  2. أزمة الدين والائتمان: تنشأ هذه الأزمة نتيجة تراكم الديون المتعثرة لدى المصارف والمنشآت ذات الطبيعية التمويلية لأسباب عدم قدرة العملاء على السداد وتقابلها حالة من وفرة الودائع لديها مع رفضها بمنح التمويلات الائتمانية للعملاء لسببين رئيسين الأول إعطاء المجال لتسوية القروض المتعثرة وإسترجاعها، والسبب الثاني الاعتقاد بعدم قدرة العملاء على السداد .

  3. أزمة العملة " أسعار الصرف ": تنشأ هذه الازمة نتيجة التغيرات السريعة نحو الانخفاض في قمية العملة مما يجلعها غير فعالة في اداء دورها كوسيط للتبادل ووعاء للقيمة، وذلك نتيجة عمليات المضاربة الكبيرة التي تتعرض لها العملة بهدف الربح من فرق الصرف الخاص بها.

  4. أزمة أسواق المال والبورصات: تنشأ هذه الأزمة بسبب قيام المستثمرين بعمليات مضاربة سريعة تؤدي إلى ارتفاع قيمة الأصل محل المضاربة بصورة خيالية عن قيمته العادلة بهدف جني الأرباح من قمية هذه الارتفاع وليس من قيمة الدخل الفعلية للأصل، مما ينتج عن هذه المضاربة كثرة عمليات البيع التي تؤدي إلى هبوطاً تدريحي في قيمة الأصل وصولاً إلى الانهيار.

العوامل الرئيسية لنشأة الازمات المالية والاقتصادية

تعود أسباب هذه الأزمات لعوامل عديدة تساهم في نشأتها منها ذات طبيعة مالية وغير مالية، ولعل من أبرزها تطور كيانات الشركات والمنشآت المالية بحجمها ومضمونها كالشركات العامة والعائلية وغيرها وما صاحب ذلك من توجب ظهور النظم الإدارية الحديثة لها التي ترتكز على علاقات وأدوار تبادلية بين أطراف داخلية وخارجية لإدارة تلك الشركات والمنشآت بأنواعها وأشكلها المستحدثة، بالإضافة إلى ظهور وتطور العولمة الاقتصادية والتجارية وما صاحبها من انفتاح للأسواق المالية وتشابك اقتصاديات دول العالم ببعضها، وما نتج عنها من تسارع في وتيرة المنافسة بين المنشآت المالية لجني أكبر حصة من الأرباح والرغبة في السيطرة على تلك الأسواق الذي ترتب عليه الازدياد، كما إن الثورة التكنولوجية وما خلفته من تقنيات متطورة ومبتكرة استخدمتها الشركات والمنشآت المالية في أنشطتها وأعمالها سيعاً منهم للحصول على أكبر حصة من الأرباح، كما أن الأدوات المالية المتنوعة كالسندات وغيرها التي اعتمد عليها تلك الشركات والمنشآت المالية بشكل كبير في عملياتها التمويلية والاستتثمارية قد لعبت دوراً جوهرياً في تعدد أنواع المخاطر المحطية وزيادة خطورتها.

نشأة الحوكمة

بزغ مصطلح الحوكمة لأول مرة على الساحتين الاقتصادية والمالية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما أصدر صندوق المعاشات العامة في الولايات المتحدة الأمريكية تقريره الخاص حول مفهوم حوكمة الشركات وأهميتها، والذي تضمن في طياته تعريفاً للحوكمة ومجموعة من المبادئ الإرشادية لتطبيقها داخل الشركات الأمريكية، وذلك تزامناً مع صدور التقرير الذي حمل عنوان (دور وتكوين مجلس إدارة شركات الاكتتاب العام الكبيرة  الذي أصدر رؤوساء كبرى الشركات الأمريكية ) من قبل كبرى الشركات الأمريكية كمحاولة منهم للوصول إلى تشريع يحد من حركات الاستحواذ والاندماج بين الشركات الأمريكية والذي سلط الضوء على واجبات مدراء الشركات والقواعد الواجب توافرها لإدارة الشركة أدائها وأموالها وأهمية التدوير بين أعضاء مجالس إدارات الشركات، وذلك جراء الخسائر الفادحة التي تكبدتها الولايات المتحدة الامريكية من الأزمة المالية الدولية خلال الفترة (1975م – 1977م) المعروفة بأزمة " الدولار الامريكي " والتي نشأت بسبب الاضطربات المستمرة التي إجتاحت سعر سعر الدولار مقابل العملات الأجنبية،  إلا أن الحوكمة في هذه الفترة لم تلاقي الاهتمام المطلوب ولم تتمكن تلك التقارير جذب الأضواء لأهميتها حيث أن التقرير الصادر عن صندوق المعاشات قد تعرض لانتقادات شديدة مما تسبب في قيام الصندوق بإلغائه بينما ظل التقرير بمثابة تعليمات وضوابطه عامة حول الممارسات المرتبطة بالحوكمة.

وفي مطلع تسعينيات القرن الماضي سارت المملكة المتحدة على خطى الولايات المتحدة الأمريكية برغبتها في تسليط الضوء على أهمية الحوكمة في الشركات والمنشآت المالية ودورها في الحد والأزمات الاقتصادية والمالية من خلال تكليف السير جورج كادبري بوضع اللبنات الأساسية لقواعد الحوكمة الخاصة في المملكة المتحدة في عام 1992م، والذي عرف الحوكمة بأنها " نظم رقابية مالية وغير مالية يتم من خلالها إدارة الشركة وتوجيهها ومراقبة أنشطتها وأعمالها "، وذلك عقب إنتهاء أزمة الأسواق المالية التي أجتاحت بلدان العالم المتقدم بدءً من بورصة نيويورك إلى بريطانيا واليابان خلال الفترة (1987م – 1989م) والناجمة عن عدة أسباب من ابرزها الهبوط الذي تعرض له سعر الدولار الأمريكي في أزمة السبعينيات السالف ذكرها، والتغيرات التي طرأت على سعر الخصم/ فائدة من طرف الدول الأوربية وما تسبب به من عزوف الاستثمار وتوالي عمليات بيع الاسهم، وأيضا اختلالات الادخارات والمدفوعات والتي جاءت بالتزامن مع تصاعد عمليات فصل الملكية عن الإدارة في الشركات البريطانية، والجدير بالذكر بأن الجهود التي قامت بها المملكة المتحدة أزاء إرساء مفهوم الحوكمة تكللت بنوع من النجاح إذا ما تم مقارنتها بالجهود التي بذلتها الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها لم توفق في تحقيق النتيجة المرجوة نحو تكثيف الاهتمام بالحوكمة.

وقد أرغمت الأزمات الاقتصادية والمالية التي عصفت بمختلف دول العالم خلال الفترة ما بين (1997م – 2008م)، ابتداء من ازمة " نمور آسيا " وانتهاء بأزمة " الرهن العقاري "، قادة المصارف المركزية والمنظمات الدولية المتخصصة في مجالات العمل المالي والاقتصادي بأن تاخذ الحوكمة في عين الاعتبار والاهتمام بها وتكريس الجهد اللازمة نحو تطويرها، وذلك لما خلفته من مخاطر وأضرار جسيمة غير مسبوقة شكلت تهديدات صارخة لحكومات الدول وكيانتها المختلفة، والتي كانت احد الأسباب الرئيسية في نشأة تلك الأزمات ضعف ممارسات الإدارة السليمة وغياب الرقابة المناسبة داخل الشركات والمنشآت المالية.

مواضيع مرتبطة