رؤية الخبراء

تطور التحكيم في المملكة العربية السعودية . أريج باحشوان

التحكيم هو أحد أهم الوسائل القانونية المعاصرة لفض المنازعات. في الواقع، شهد التحكيم نموًا سريعًا على الصعيدين الوطني والدولي حيث يختار الأطراف المتنازعون، وعلى نحو متزايد، اللجوء إلى التحكيم في السنوات الأخيرة كآلية بديلة لفض المنازعات. ويرجع السبب وراء التفضيل المتزايد للتحكيم من قبل الأطراف في جميع أنحاء العالم لكون التحكيم نتاجًا مبني على الموافقة، ويوفر الحيادية، المرونة والسرية، والأهم من ذلك، ضمان كون قرار التحكيم النهائي ملزمًا وقابلًا للتنفيذ كالأحكام التي تصدرها المحاكم. وثمة ميزة إضافية وهي أنه لا يمكن استئناف قرارات التحكيم ولا يمكن الطعن فيها إلا لأسباب محدودة جداً. بالتالي، يعتبر التحكيم من أكثر الآليات فعالية خاصة في الحالات التي يأتي فيها الأطراف من خلفيات قانونية وتجارية وثقافية مختلفة. علاوة على ذلك، يستفيد مشرعوا الأنظمة من التحكيم حيث يقلل اللجوء إلى التحكيم من الضغط على الهيئات القضائية العامة نظرًا للطبيعة السرية للإجراءات التحكيمية، مما يشجع المشرعين على سن وتحسين قوانين التحكيم. تم تبني قوانين  التحكيم من قبل معظم الأنظمة المتقدمة. ومع ذلك، فإن المملكة العربية السعودية ("المملكة" أو "السعودية") لديها رحلة فريدة في تطوير أنظمة التحكيم الخاصة بها.

على الرغم من أنه لم يتم الاعتراف بالتحكيم التجاري ولم يستخدم بتوسع في المملكة العربية السعودية لسنوات عديدة، إلا أن المملكة واكبت التطورات المتسارعة في العالم المعاصر، وباتت تعتمد بشكل كبيرعلى التحكيم في تسوية العديد من المنزاعات التجارية. في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن العديد من الأنظمة السعودية دوّن فيها مفهوم التحكيم، ويعتبر نظام المحاكم التجارية لعام 1931م ونظام العمل السعودي لعام 1996ممثالين رئيسيين. ومع ذلك، ونظرًا للتطور المستمر في التجارة المحلية والدولية، فقد أصبح من الضروري سن نظام خاص للتحكيم. وهكذا، أصدرت المملكة أول نظام تحكيم لها في عام 1983م ليصبح أداة فعالة في تسوية النزاعات التجارية. وبعد ذلك، في عام 2012م، صدر ("نظام التحكيم الجديد")ليحل محل نظام التحكيم الأول بشكل أكثر تفصيلاً، وفيه عمد المشرع إلى تصحيح وسد بعض الثغرات التي أغفلها النظام السابق. وإلى جانب ذلك، جاء النظام الجديد متماشيًا مع القوانين والاتفاقيات الدولية، مما جعله قابلًا للتطبيق على المستوى المحلي والدولي. والأهم من ذلك، أن نظام التحكيم الجديد جاء وفقًا لقانون الأونستيرال النموذجي بشأن التحكيم التجاري الدولي ("الأونسيترال"). والأونسيترال هي وثيقة تساعد الدول على إصلاح وتحديث قوانينها المتعلقة بإجراءات التحكيم، مع مراعاة الخصائص والاحتياجات الخاصة للتحكيم التجاري الدولي. وعلى الرغم من ذلك، جاء نظام التحكيم الجديد متوافقًا مع مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، وهو أساس الحكم في البلاد كما هو منصوص عليه في المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم.وعلاوة على ذلك، ولزيادة مواءمة نظام التحكيم، دخل ("نظام التنفيذ الجديد")حيز التنفيذ لينظم تنفيذ قرارات التحكيم. 

ومع سن نظام التحكيم الجديد يليها نظام التنفيذ الجديد شهدت المملكة العربية السعودية نقلة إيجابية كبيرة في نظام التحكيم ويتجلى ذلك في إعلان وزارة العدل للتقارير الصادرة والتي تفيد بأن محاكم التنفيذ في العامين 2017م-2018م حطمت الرقم القياسي إذ تلقت 257 طلبًا لتنفيذ قرارات تحكيمية صادرة من خارج المملكة العربية السعودية. وكخطوة رئيسية لمواصلة تعزيز وتشجيع تسوية النزاعات عن طريق التحكيم، وكذلك لضمان استمرار ازدهار الاستثمارات المحلية في المملكة، تم تأسيس المركز السعودي للتحكيم التجاري في عام 2014م وبدأت العمل في عام 2016م. المركز السعودي للتحكيم التجاري هو منظمة غير ربحية تتبنى أفضل الممارسات والمعايير الدولية في توفير الخدمات المهنية للأطراف الذين يلجؤون إلى التحكيم. وتأتي أحد أكبر الآثار الإيجابية للتحكيم في المملكة العربية السعودية هو أن المرأة السعودية أصبحت محكمة، كاسرة السقف الزجاجي لقضية معاصرة استمرت لعقود. ففي 2016م، شهد تاريخ المرأة السعودية حقبة جديدة عندما تم تعيين أول محكّمة سعودية في قضية تجارية، على الرغم من كل التحديات والاعتراضات التي أثيرت في ذلك الوقت. وقد حققت المرأة السعودية الريادة وبات لها سجل حافل بالنجاح خلال السنوات الماضية حيث أثبتت كفاءتها ومقدرتها. فعلى سبيل المثال، شارك فريق جامعة دار الحكمة من جدة، بالمملكة العربية السعودية في منافسة التحكيم الصورية المعروفة بويليم سي فيس للتحكيم التجاري الدولي في نسختها السادسة والعشرين، وتعتبر هذه المنافسة أحد أكبر منافسات التحكيم الصورية الدولية وتعقد سنويًا في فيينا منذ عام 1994م، وتجتذب أكثر من 370 فريقًا من جميع أنحاء العالم. والغرض من هذه المنافسة هـو تعزيز الدراسات المتعلقة بالتحكيم التجاري وتشجيع استخدام التحكيم باعتباره آليه بديلة لفض النزاعات ويتألف من مرحلتين. الأولى، المرحلة الكتابية والتي تتكون من صياغة مذكرات لكل من المحتكم والمحتكم ضده، والثانية، المرحلة الشفهية والتي بدورها تهدف إلى دراسة مدى فهم الطلاب/الطالبات للقضية ومدى عمق البحث الذي أٌجري من قبلهم. في عام 2019م، كان فريق جامعة دار الحكمة، بعد سنوات من المحاولة، محظوظًا بما يكفي ليصبح أول فريق سعودي/خليجي يتأهل لجولات الإقصاء - متصدرًا كليات الحقوق المرموقة مثل هارفارد، ييل، وأكسفورد. كان الجميع متفاجئًا من حقيقة أن فريق جامعة دار الحكمة هو فريق نسائي بالكامل من المملكة العربية السعودية، وفي نهاية المطاف، كان الإنجاز المطلق تسجيل رقمًا قياسيًا وإظهار للعالم ما يمكن أن تفعله المرأة سعودية. وقد سبق تحقيق هذا الإنجاز مشاركة الفريق في العديد من المنافسات الإقليمية مثل، أولاً، المنافسة التمهيدية على مستوى الشرق الأوسط في نسختها التاسعة والتي تُقام في البحرين، وفاز الفريق بأفضل مذكرة محتكم مع شهادة شرف لمذكرة المحتكم ضده. وقبل 2019م فاز الفريق أيضًا في المنافسة ذاتها أربع مرات متتالية للسنوات من 2015م حتى 2018م. ثانيًا، شارك الفريق في منافسة التحكيم التي نظمها مركز التحكيم التجاري الآيسوي في نسختها الثالثة والتي أٌقيمت في كوالالمبور، وفاز بأفضل مذكرة محتكم. وأخيرًا، تأهل فريق جامعة دار الحكمة من بين أفضل 4 فرق من بين 12 فريق في محكمة التحكيم الدائمة (PCA) في لاهاي، علمًا بأن هذه الفرق لا تترشح لمثل هذه المنافسة المرموقة إلا وفق شروط دقيقه ويتم اختيارها من بين العديد من الفرق الي شرعت في المشاركة. بعد هذا الإنجاز المتميز دعا صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، فريق جامعة دارالحكمة إشادةً وتقديرًا لجهودهم وذلك يوضح مدى احتفاء المملكة العربية السعودية ودعمها للجيل الصاعد.

ولم يكتف فريق جامعة دار الحكمة بتحقيق هذه الإنجازات البارزة باسم المملكة فحسب، بل وشجع المركز السعودي للتحكيم التجاري لبدأ منافسة تحكيم سعودية مماثلة. وفي هذا العام، بدأت أول نسخة لمنافسة التحكيم السعودية بتنظيم الهيئة السعودية للتحكيم التجاري بحضور أكثر من 200 طالب/طالبة من 24 جامعة مختلفة من أنحاء المملكة. وعلى الرغم من جميع الصعوبات التي واجهتها بسبب أزمة كوفيد 19، نجحت الهيئة السعودية للتحكيم التجاري في تحدي كافة العقبات والاستمرار في المنافسة تقديرًا للعمل الشاق الذي خاضه الطلاب/الطالبات، وكان مستوى الاحتراف والتنظيم الذي قامت به الهيئة السعودية للتحكيم التجاري بارزًا وملحوظًا، حتى عندما كان هناك غياب طارئ للمحكمين، تمكن المنظمون من حل المسألة بكفاءة عالية، ولقد كان من المذهل أن نشهد نجاح الشباب السعودي خلال المنافسة من خلال العزيمة والإصرار. ساهم الكاتب في المنافسة السعودية من خلال توجيه الطلاب/الطالبات والتحكيم قبل وأثناء المنافسة. ومن المؤكد أن مستوى التحسن الذي أبداه الطلاب/الطالبات يومًا بعد يوم مثيرًا للإعجاب، ناهيك عن مستوى الادراك الذي لم يلب التوقعات فحسب، بل تجاوزها، خاصة وأن معظم الطلاب/الطالبات لم يدرسوا موضوع التحكيم وكان الأمر برمته تجربه جديدة بالنسبة لهم. ومن أكثر القصص تحفيزًا قصة لطالب قام بتأدية كافة الأدوار في المنافسة نيابةً عن زملائه الذين لم يتمكنوا من استئناف المنافسة بعد التأجيل الناجم عن الجائحة. والواقع أن قوة الإرادة التي أبداها الطلاب/الطالبات كانت السمة الأكثر بروزًا، وقد أثبتت نتائج المنافسة أن المملكة العربية السعودية استثمرت جيدًا في شبابها. وكما قال الأمير محمد بن سلمان آل سعود، "ثروتنا الأولى التي لا تعادلها ثروة مهما بلغت: شعبٌ طموحٌ، معظمُه من الشباب، هو فخر بلادنا وضمانُ مستقبلها بعون الله.

وفي الختام، لا يسع المرء إلا أن يشيد بالمملكة العربية السعودية التي باتت سباقة في مواكبة التطورات، وحققت مؤخرًا تحولًا كبيرًا في مجال التحكيم الدولي، مما أدى إلى انعكاسات إيجابية في تنويع الاقتصاد. ويفخر الكاتب بجهود المملكة في مجال التحكيم والفرص التي تم استلهامها من مفهومه. وفي الواقع، فإن منافسات مثل منافسة التحكيم التجاري الصورية تخلق قادة المستقبل الذين سيكونون قادرين على الريادة ليس فقط على المستوى المحلي ولكن أيضًا على المستوى الدولي، وهي فرصة لتوسيع الآفاق وتحسين المهارات اللازمة للتفوق والتميز في المهنة. والأهم من ذلك أنها تساعد في اكتساب المهارات المهنية والشخصية وصقل الشخصية. عليه، نحث الطلاب/الطالبات لتحدي أنفسهم من خلال اغتنام هذه الفرصة والمشاركة في هذه المنافسة. هي تجربة لا يمكن القول بأنها سهلة ولكن كونوا متأكدين بأنها فرصة جديرة بالجهد المبذول. ولا يسعني إلا أن أشكر كل من دعم أي من المنافسات المذكورة أعلاه، فقد ساهمتم بشكل كبير في النجاح الذي كان دائمًا مشرفًا ومتميز. تهانينا لجميع الطلاب/الطالبات الذين شاركوا في منافسة التحكيم الصورية، أظهرتم إمكانيات قوية تشكل أساسًا راسخًا وواعدًا لمستقبل المملكة العربية السعودية. يتوقع الكاتب أنه في ظل التطورات المستمرة والمتواصلة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، ستكون المملكة دولة نموذجية. ها هي المملكة العربية السعودية اليوم، والقادم أفضل بإذن الله.

 

 

 

مواضيع مرتبطة